فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.من سورة ص:

.تفسير الآية رقم (44):

قال الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)}
وهذه قصة من قصص حياة نبي الله أيوب عليه السلام، ولقد عرض القرآن الكريم لذكر أيوب عليه السلام في أربعة مواضع منه. فقد جاء ذكره في سورة النساء [163] في عداد الأنبياء الذين أوحي إليهم.
{إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)}.
وجاء ذكره في سورة الأنعام [83، 84] في عداد الأنبياء من ذرية نوح عليه السلام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)}.
وجاء ذكره وذكر كشف الضرّ عنه في سورة الأنبياء [83، 84] بعد ذكر تسخير الريح عاصفة لسليمان، وعمل الجن له في قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)}.
وجاء ذكره في سورة ص [41- 44] في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) إلى وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)}.
فأنت ترى أنّ أيوب قد ذكر مرّة في عداد النبيين الذين أوحي إليهم، ومرّة في عداد من كان من ذرية نوح من النبيين، ومرّة ثالثة في سورة الأنبياء حيث ذكر بعض ما أصابه من ضرّ مسه، وقد سأل أرحم الراحمين كشفه، فاستجاب له، فكشف ما به من ضرّ، وآتاه أهله رحمة من عنده وذكرى للعابدين.
وقد جاء ذكره في سورة ص تفصيلا بعض التفصيل لهذا الضر الذي أصابه، وبيانا لطريق كشف الضرّ عنه، فقد جاء في تفصيل الضرّ أنّ الشيطان مسّه بنصب وعذاب، والنصب: بضم النون وإسكان الصاد: التعب، كالنّصب بالفتح فيهما، والعذاب: النكال.
وجاء في بيان كشف الضر عنه أمره أن يركض برجله، والقول له: هذا مغتسل بارد وشراب. والمغتسل: مكان الغسل، والشراب: ما يشرب. ثم جاء في هذا البيان أيضا أنه وهبه أهله ومثلهم معهم، وأنّ ذلك كان رحمة منه وذكرى لأولي الألباب، على نحو ما جاء في سورة الأنبياء تماما بفارق بسيط، ذلك أنّه قيل في الأنبياء: {وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ} وقيل في ص: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ} وقيل في الأنبياء: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ} وقيل في ص [43]: {رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ}.
وقد جاء في سورة ص زيادة لم تظهر في (سورة الأنبياء) ذلك هو قول الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} وإنما جعلنا هذه زيادة لم تظهر، مع أنّها طريق من طرق كشف الضر الذي أصاب أيوب، لأنا رأينا القرآن قد فصل بين الضّرّ الذي أصاب أيوب في شخصه، وبين ما أصابه في أهله.
فقال في الأول: {فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ}.
وقال في الثاني: {وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ}. فدلّ ذلك على أنه أصابه ضران: ضرّ في النفس، وضرّ في الأهل، وقد جاء إيتاء الأهل في السورتين نصا، وجاء كشف الضّرّ في الأنبياء بلفظه، وفي ص بالأمر بالرّكض بالرجل.
أما الأمر بأخذ الضّغث، والضرب به، فشيء جديد، جاءت به آية مستقلة، وهي في شأن من شؤون أيوب كان من الخير ألا يفعله حتّى لا يتأذّى به غيره.
ويكاد القرآن الكريم يكون صريحا في أنّ الضرّ الذي مسّ أيوب عليه السلام ضر حسيّ، تلمسه من قول أيوب: مسني الضر، وقوله في سورة ص: {مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ} وفي قول الله: {فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وقوله لأيوب: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42)} وليس بلازم في ثبوت صبر أيوب أن يكون الضر الذي أصابه قد وصل إلى الحدّ الذي عصم منه الأنبياء، وعلى الوجه الذي ينقله المفسرون من الإسرائيليات التي لا يكاد يثبت منها شيء. بل يكفي أن يكون مرضا من الأمراض المستعصية التي ينوء بحملها الناس عادة، ويضجرون من ثقلها، وخصوصا إذا امتدّ الزمن بها، وإنّك لتفهم من التعبير عنها بمس الشيطان أنها مما لا يؤلف عادة، وكلّ غريب غير مألوف يقال فيه: إنّه من فعل الشيطان.
وقد يكون التعبير عنها بأنها مس الشيطان للتأدب، على حد ما يقال: (إن كان خيرا فمن الله، وإن كان شرّا فمني ومن الشيطان).
فإذا احتملها الإنسان وصبر عليها صحّ أن يقال فيه: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
وأما اللجوء إلى القول بأن ذلك الضّرّ هو إعراض قوم أيوب عن دعوته فرارا مما رواه المفسرون من خرافات لا تصح، فهو ظنّ لا يغني من الحق شيئا.
فالقرآن الكريم في المواضع الأربعة التي جاء فيها ذكر أيوب لم يذكر فيها شيئا عن دعوته في قومه، ولا شيئا مما كان من قومه، ولو أنّ الذي أصاب أيوب من قومه في دعوته كان شيئا يصحّ أن يذكر لذكره الله في عبارة صريحة واضحة جلية، كما هو الشأن في الذين لقوا عنتا في سبيل دعوتهم، على أنّا لا نعتقد أنّ أحدا من الرسل لقي عنتا مثل الذي لقي إبراهيم ونوح وموسى.
لقد بلغ من عداوة قوم إبراهيم له أن قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 68].
وبلغ من عناد قوم نوح أن قال فيهم: {قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (6)} [نوح: 5، 6] وأن اضطر إلى أن يسأل الله: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27)} [نوح: 26، 27].
وحتى ابنه كان في معزل عنه، ولم يستمع لأبيه حتى في طلب النجاة من الغرق.
ولم يكن شأن موسى مع قومه بأقلّ من هذا، فقد أخرجه عنادهم إلى التيه، كلّ هذا وغيره أصاب الأنبياء في دعوتهم، ولم يحك القرآن أن أحدا منهم قال: مسني الضر، ولا مسني الشيطان بنصب وعذاب.
وقد أمر الله نبينا صلّى الله عليه وسلّم أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولم يقل أحد: إنّ أيوب كان من أولي العزم، مع أنّ الله يقول فيه: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً} ولقد كان صبر أيوب مضرب الأمثال، وأولو العزم من الرسل هم الذين أصابهم عنت معارضة الدعوى، فصبروا، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتأسّى بهم.
ترانا قد أطلنا في غير ما هو مقرّر علينا، ولكن جرّنا إليه أنّا أردنا أن نبيّن المخاطب في قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}.
والضغث: في اللغة قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس. وقال ابن عباس: وهو عثكال النخل.
والحنث: يطلق على الإثم، وعلى الخلف في اليمين، وعلى هذا فقد أمر الله أيوب أن يأخذ قبضة من حشيش، أو حزمة حطب، فيضرب بها، ونهاه أن يحنث.
وإذن لقد كان أيوب حلف ليضرب، وكان هذا الضرب مؤذيا وإذا تركه أيوب يكون حانثا مخالفا ليمينه، فنهاه الله أن يحنث، وأوجد له المخرج من إيقاع الذي يترتب على البر باليمين، وهو أن يأخذ الضغث فيضرب به، فلا يتأذّى المضروب، فيكون قد برّ بيمينه، وابتعد من الحنث، وتجنّب إيقاع الأذى بالغير.
وقد جعل المفسرون يعيّنون من كان سيلحقه الأذى، ويذكرون السبب الذي انبنى عليه عزم إيقاع الأذى، وأخذوا يصوّرون الذي كان من أيوب تارة على أنه كان يمينا، وتارة على أنه كان نذرا، وقد ذكروا في كل ذلك روايات لم تثبت صحتها، فرووا أنّ امرأة أيوب هي المحلوف عليها، وقالوا في سبب الحلف إنّها كانت تخدمه، وضجرت من طول مرضه، فتمثّل لها الشيطان طبيبا، فقالت له: هل لك أن تشفي هذا المريض؟ فقال: بشرط أن يقول كلمة واحدة هي: أني شفيته: فقالت لأيوب: كلمة واحدة تقولها، وتشفى، ثم تستغفر الله، فحلف أو نذر لئن شفي ليضربنّها مائة جلدة.
وقيل بل كانت تأتي له بالطّعام، فأتت يوما بطعام أكثر من المعتاد، وكانت قد باعت ذوائبها، فارتاب في أمرها، فحلف أو نذر.
وقيل: بل طلبت إليه أن يسأل ربّه أن يشفيه، فظنّ ذلك منافيا للصبر فحلف.
وقالوا في الضر الذي أصابه أقوالا كثيرة ينافي ما ثبت للأنبياء من العصمة من المنفّرات.
وقد فهمت قبلا أنّ القرآن يدلّ على أنّ الضرّ حسي تناول البدن بإشارة {مسّني الضّرّ} و{مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ} وبإشارة {فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ} وبإشارة {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} إذ هو ظاهر في أنّه إنما أمر بذلك كطريق من طرق العلاج، وكذلك قول الله: {هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ} فهو ظاهر في أنّ المراد أن يغتسل من المغتسل، وأن يشرب من الشراب فيشفى.
وكذلك يدلّ القرآن على أنّه قد أصيب في أهله بغير تعيين لنوع الإصابة، أكانت بالموت أم بالمرض، أم بهما معا، فكشف عنه هذا الضر، فآتاه أهله ومثلهم معهم، والله يعلم كيف كان هذا الإيتاء، أبإحياء من مات؟ أم بمباركة من بقي وزيادة نسله؟
وقد كان منه حلف بضرب كان من الخير ألا يفعله، فنهاه عن الحنث، وأوجد له المخرج من شرّ الأذى، فأمره بأخذ الضّغث والضرب به. ذلك كلّ ما يدل عليه القرآن الكريم، وهو ليس في حاجة إلى ما جاء في الإسرائيليات، ولو علم الله في البيان أكثر من هذا خيرا لبيّنه.
ثم قال الله تعالى: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} صبر على ما أصابه من أذى في بدنه وأهله وماله، والأواب: كثير التأويب والرجوع إلى الله في كلّ أموره.
فأنت ترى أنّ أيوب كان قد حلف على ضرب يتكرّر مرارا، وذلك يؤذي المضروب، فأوجد له تحلّة القسم، وذلك بالضرب بالضغث، ويظهر أنّه لم يكن عنده كفارة اليمين.
وبناء على رأي بعض الأصوليين الذين يقولون: إنّ شرع من قبلنا شرع لنا قال الحنفية: إنّ من حلف ليضرب مئة ضربة، فأخذ حزمة من حطب عدد عيدانها مئة، فضرب بها برّ بيمينه، ولا كفارة عليه، لأنّ الله قد رخّص لأيوب هذا، وجعله غير حانث به، وما دام غير حانث فهو بار، لأنّه لا واسطة بين الحنث والبر، ومن أجل أنّه برّ لا تجب الكفارة، لأن الكفارة في شريعتنا إنّما تجب عند الحنث.
والمالكية- وإن كانوا يقولون بهذه القاعدة الأصولية- ويقولون: هي رخصة خاصة بأيوب، بدليل توجيه الخطاب له، وبما ذكر للترخيص من العلة. ويقول ابن العربي: إنّما انفرد مالك عن القاعدة لتأويل بديع هو أنّ مجرى الأيمان عند مالك في سبيل النية والقصد أولى، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما الأعمال بالنيات»، وقصة أيوب عليه السلام ولم يصح فيها شيء يبيّن كيفية اليمين حتى نلتزم شريعته فيها. انتهى ملخصا فلا معنى لترك ما دلت عليه شريعتنا لشيء لا نعرف ما هو، وشريعتنا تقضي بحمل الأيمان على اللغة، أو على العرف، واللغة لا تجعل الضارب مرة بسوط ذي شعب ضاربا مرات بعدد الشعب، وكذا العرف، فوجب أن نجري على ما هو الحكم عندنا بموجب العرف واللغة.
ولذلك لا يجوز هذا فيمن وجب عليه الحد إذا كان صحيحا، وأما إذا كان مريضا فهذه رخصة في حدّ المريض خاصّة، وإن شئت فقل: إنّها حدّ المريض إذا كان لا يقوى على احتمال الحد، ولذلك نرى أنّ الأولى الأخذ برأي مالك في المسألة خصوصا وأنّ الكفارة شرعت عند إرادة العدول عن مقتضى اليمين إلى ما هو خير، بل لقد قال بعضهم: إنّ المخالفة إلى الخير كفارة.
بقي أنّ بعض العلماء يريد أن يأخذ من هذه الآية مشروعية الحيلة، وسنسمعك شيئا من حججهم، وشيئا من ردّ ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين عليهم، ونوصيك بقراءته في هذا الموضوع، فهو نفيس.
وقبل أن ننقل لك عن ابن القيم نقول: إنّ الحيلة- كما هو ظاهر من اسمها- ما يقصد به الاحتيال لدفع شيء عن وجهه الذي هو عليه، أو جلبه من غير وجهه الذي هو عليه، كأولئك الذين يتظاهرون أنّهم يؤدون الزكاة، فيجيئون بفقير يعطونه شيئا من المال، وقد تواضعوا على أن يهبه لهم، ثم وثم، حتى ينتهي ما عليهم من الزكاة، عدّا على الفقير، وهبة من الفقير لهم.
ومثل آخر ذلك الذي أسماه الحنفية إسقاط الصلاة، وقاسوها على الحج عن الغير، وعلى فدية الصوم، ولسنا نريد أن نقول لهم شيئا في القياس والجامع والفارق، وإنما هو شيء أوجدوه، قصدوا منه الإحسان إلى الفقراء، ثم أجازوا الحيلة في إسقاط ما يسقط الصلاة، فقالوا: يعطى الفقير نصف صاع، ثم يهبه، وتتكرّر العملية بعدد الصلوات المتروكة، أو بعدد الأيام المتروكة، فيكونون قد أحسنوا إلى الفقراء، وتسقط الصلاة عن ميتهم.
وهناك أمثلة كثيرة، فقد أدخلوا الحيلة في كلّ شيء: أدخلوها في التحليل في المطلق ثلاثا، وأدخلوها في الزكاة، وفي الاستبراء، وفي كفارة الصيام. وما ندري لماذا شرعت الأحكام بعد إذ جاءت الحيل، وانفتح بابها لعدم التزام الأحكام، وللعلماء آراء في مشروعية الحيلة، فبعضهم يمنعها مطلقا، وبعضهم يجيزها مطلقا، وبعضهم يقول: إن عطلت مصلحة شرعية كالتحيّل في الزكاة لا تقبل، وإلا قبلت.
ونحن ننقل لك طرفا من أدلة المجيزين وأدلة المانعين عن العلّامة ابن القيم رحمه الله قال:
قال أرباب الحيل: قد أكثرتم من ذمّ الحيل، وأجلبتم بخيل الأدلة ورجلها، وسمينها ومهزولها، فاستمعوا الآن تقريرها، واشتقاقها من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام، وأنّه لا يمكن لأحد إنكارها.
قال الله تعالى لنبيه أيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فأذن لنبيه أيوب أن يتحلّل من يمينه بالضرب بالضّغث، وقد كان نذر أن يضربها ضربات معدودة. وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقة، فأرشده تعالى إلى الحيلة في خروجه من اليمين، فنقيس عليه سائر الباب، ونسميه وجوه المخارج من المضائق ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها.
وأخبر تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام أنّه جعل صواعه في رحل أخيه، ليتوصل بذلك إلى أخذه من إخوته، ومدحه بذلك، وأخبر أنّه برضاه وإذنه، كما قال: {كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50)} [النمل: 50] فأخبر الله أنّه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله.
وكثير من الحيل هذا شأنها، يمكر بها على الظالم والفاجر، ومن يعسر تخليص الحق منه، فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم، وقهر ظالم، ونصر حق، وإبطال باطل، والله تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن، ولكن جازاهم بجنس عملهم، وليعلّم عباده أنّ المكر الذي يتوصّل به إلى إظهار الحق، ويكون عقوبة للماكر، ليس قبيحا.
وقد ساق ابن القيم بعد ذلك آثارا، عن الصحابة، وأحاديث من السنة، وأقوالا عن السلف والأئمة، يتمسك بها القائلون بمشروعية الحيلة، يطول المقام بذكرها، فنحيلك على أعلام الموقعين إن أردتها.
ثم أخذ يرد على هذا الذي تمسّك به القوم، فأطال في إبداع، ونحن نذكر هنا طرفا منه.
قال: ونحن نذكر ما تمسكتم به في تقرير الحيل والعمل بها، ونبيّن ما فيه، متحرّين العدل والإنصاف، منزّهين لشريعة الله وكتابه وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم عن المكر والخداع والاحتيال المحرم، ونبيّن انقسام الحيل والطرق إلى ما هو كفر محض، وفسق ظاهر، ومكروه، وجائز، ومستحب، وواجب عقلا أو شرعا، ثم نذكر فصلا نبيّن فيه التعويض بالطرق الشرعية عن الحيل الباطلة، فنقول وبالله التوفيق، وهو المستعان وعليه التكلان:
أما قوله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فقال شيخنا: الجواب: أنّ هذا ليس مما نحن فيه، فإنّ للفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا قولين: يعني إذا حلف ليضربنّ امرأته أو عبده مائة ضربة:
أحدهما: قول من يقول موجبها الضرب مجموعا أو مفرقا، ثم منهم من لا يشترط مع الجمع الوصول إلى المضروب، فعلى هذا تكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق، وليس هذا بحيلة، إنما الحيلة بصرف اللفظ عن موجبه عن الإطلاق.
والقول الثاني: أن موجبه الضرب المعروف، وإذا كان هذا موجبه لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا من شرائع من قبلنا، لأنّا إن قلنا: ليس شرعا لنا مطلقا فظاهر، وإن قلنا: هو شرع لنا فهو مشروط بعدم مخالفته شرعنا، وقد انتفى الشرط.
وأيضا فمن تأمّل الآية علم أنّ هذه الفتيا خاصة الحكم، فإنّها لو كانت عامة الحكم في حقّ كلّ أحد لم يخف على نبي كريم موجب يمينه، ولم يكن في قصّها علينا كبير عبرة، فإنما يقصّ علينا ما خرج عن نظائره، لنعتبر به، ونستدل به على حكمة الله فيما قصّه علينا.
ثم قال: ويدل عليه اختصاص قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً} وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل، كما في نظائرها، فعلم أنّ الله سبحانه إنما أفتاه بذلك جزاء له على صبره، وتخفيفا عن امرأته ورحمة بها.
وأيضا فإنّه تعالى إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث، كما قال: {وَلا تَحْنَثْ} وهذا يدلّ على أنّ الكفارة لم تكن مشروعة في شريعته: بل ليس في اليمين إلا البرّ أو الحنث، وقد كان ذلك مبررا في شريعتنا قبل شروع الكفّارة لم يكن أبو بكر يحنث في يمين حتّى أنزل الله كفارة اليمين.
وإذا كان كذلك، يكون كأنّه نذر ضربها، وهو نذر لا يجب الوفاء به، لما فيه من الضرر عليها. ولا يغني عنه كفارة يمين، لأنّ تكفير النذر فرع عن تكفير اليمين، فإذا لم تكن كفارة النذر مشروعة إذ ذاك، فكفارة اليمين أولى: وقد علم أنّ الواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع وإذا كان الضرب الواجب بالشرع. يجب تفريقه إلّا إذا كان المضروب ميئوسا من شفائه، فيكون الواجب أن يجتمع الضرب، لمكان العذر.
وبعد كلام طويل قال في قصة يوسف: نحن نسأل القائلين بجواز الحيل: هل تجيزون أنتم مثل هذا في شريعتنا حتى يكون لكم أن تحتجّوا بمثله؟ وأما مجرد وجوده في شريعة يوسف فليس ينفعكم.
قال شيخنا: ومما قد يظنّ أنّه من جنس الحيل التي بيّنا تحريمها، وليس من جنسها قصة يوسف، حين كاد الله له في أخذ أخيه، كما قصّ ذلك في كتابه [يوسف: 70]، فإن فيه ضروبا من الحيل الحسنة:
منها: جعله بضاعتهم في رحالهم، ليرجعوا بعد المعرفة.
ومنها: جعل السقاية في رحل أخيه ليظهره بمظهر السارق، فيحتجزه. وقد ذكروا أنّ ذلك كان بمواطأة بينه وبين أخيه، وعلى ذلك فليس هناك حيلة.
ثم أطال في بيان الموضوع، ونحن نجتزئ منه بهذا.
وبعد فإنّ التحايل على إسقاط التكاليف الشرعية أمر تنفر منه الطباع، وما ندري هل علم المحتالون أنّ حيلهم تنطلي فتسقط التكاليف أو هم قد اتخذوا عند الله عهدا أنه لا يجازيهم على هذا التحايل؟ ثم من يخادعون!!! التحايل في الحرب في اتقاء الظالمين أمر مقبول {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ} [آل عمران: 28] أما التحايل لإسقاط التكاليف، ولأكل الأموال من غير وجهها فما نظنّ أحدا يقول به.
وفي هذا القدر كفاية، ونكرر الوصية بمطالعة الموضوع في مراجعه، فإنّه نفيس، ويكفي أن نبهناك إليه، والله وليّ التوفيق.